ألم يحن الوقت بعد، كي تستعيد مصر دورها ومكانتها في الإقليم؟
ثمة فكرة شاعت لعقود مفادها أن مصر فقدت دورها ومكانتها الإقليمية عندما قام الرئيس الراحل أنور السادات بزيارته التاريخية للقدس في نوفمبر عام 1977، وأبرم معاهدة للسلام مع إسرائيل. ويربط كثير من المعارضين في مصر، لاسيما المعارضين المرتبطين بالفكر القومي العربي والبعثي والإسلاميين، بين استمرار معاهدة السلام القائمة بين مصر وإسرائيل وبين تراجع مكانتها الإقليمية، دون أي نظر للمتغيرات الحادثة في الإقليم والتي تشير إلى تردي المعسكر الذي قاد المقاطعة ضد مصر، ويتجاهلون الخطاب المصري في منتصف تسعينات القرن الماضي الذي حذر من خطورة الهرولة إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، دون حل للمشكلة الفلسطينية. ولا أريد صدمة القوميين والإسلاميين المعادين للسادات، والكارهين له، والقول إن حرص أطراف عربية في معسكري الثروة والثورة، كانوا أكثر حرصاً من إسرائيل ومن القوى الغربية على زعزعة قيادة مصر للنظام العربي. لم يفهم كثير من العرب والفلسطينيين أن الرئيس السادات إنما أراد أن يتخذ مساراً آخر لتصحيح مسار الهزائم العربية المتكررة في مواجهة إسرائيل، المدعومة بقوى دولية، واكتشافه مبكراً أنه لا يمكن تصحيح هذا المسار بوسائل عسكرية فقط.
اتُهم السادات من خصومه في مصر وفي العالم العربي ومن دوائر اليسار والإسلاميين بالخيانة، ولا أعرف خان من؟ هل خان الشعب المصري الذي دفع ثمنا باهظاً من أجل تحرير أرضه التي احتلت في حرب عام 1967؟، هل خان الشعب الفلسطيني الذي دعا قادته للمشاركة وحذرهم من مغبة عدم اغتنام الفرصة التي كان من الممكن تطويرها للحد من التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية؟ لقد ربط السادات منذ اللحظة الأولى وفي خطابه التاريخي أمام الكنيست بين السلام وإزالة آثار عدوان 1967، وهو أقصى ما كان يمكن تحقيقه، استنادا لقرارات مجلس الأمن المتعاقبة بعد حرب 1967، واستناداً لقرارات الأمم المتحدة، وجرت تغيرات كثيرة حذر منها السادات، عندما أفاقت القيادة الفلسطينية بعد حرب لبنان 1982 وخروجها إلى تونس، وأدركت أن الطريق لتحرير فلسطين يبدأ من داخل فلسطين وليس من خارجها، وبدأت تقرأ تجربة المفاوض المصري للاستفادة منها.
كان من الممكن أن تلعب مصر دوراً في قيادة العالم العربي على طريق السلام، كما لعبته وقت الحرب والمعركة، لكن الحقيقة أن إخراج مصر من معادلة القوة العربية لم يكن هدفاً إسرائيليا وأمريكياً وحسب، وإنما كان هدف كثير من الزعماء العرب الطامحين في أن يحتلوا المكانة التي احتلتها مصر دون أن يكون لديهم ما لدى مصر من قدرات ومؤهلات بشرية واقتصادية أو حتى سياسية. ولعبت متغيرات كثيرة في الدفع بهذا التغير الذي تدفع الشعوب العربية ثمنه إلى الآن. من المؤكد أن القيادة السياسية في مصر تتحمل المسؤولية الأولى عن هذا الوضع بسبب تهميشها للقوى الاجتماعية والسياسية في الداخل وبسبب أولوياتها السياسية وفي مقدمتها الاحتفاظ بالسلطة السياسية لأطول وقت ممكن، بل التفكير في توريثها، وبدلا من أن تقدم مصر بطاقاتها البشرية والعلمية والفكرية نموذجا لبناء دولة حديثة وديمقراطية، سمحت بغزوها فكرياً من قبل الوهابية والبعث ومن قوى أخرى إقليمية ودولية.
مصر لا تزال مؤهلة للقيادة ولكن!
لم تستطع الدول العربية إبقاء مصر خارج المعادلة السياسية للإقليم كثيراً، فالعراق كان بحاجة للدعم العسكري المصري في مواجهة إيران، وكان ذلك بداية التحرك لـ "إعادة مصر إلى الصف العربي"، وراح بعض كبار المثقفين والباحثين المصريين يرددونها دون وعي، رغم ما تنطوي عليه هذه العبارة من خطأ وما فيها من إنكار لأهمية مصر ومحورية دورها، وما فيها من جفاء للحقيقة البسيطة التي تشير إلى أن العرب هم الذين عادوا إلى مصر. لقد قرنت الدول العربية عودة مصر إلى حظيرة العرب بشروط تحد من الدور القيادي المؤهلة للعبه، وقبلت القيادة السياسية المحافظة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك هذه العودة المشروطة، ولم تحسن استثمارها، بل جرت محاولة لتوريط مصر في سياسات المحاور العربية من خلال تجربة مجلس التعاون العربي، الذي تأسس في عام 1989. وتصور صدام حسين الذي لعب دوراً رئيسيا في تشكيل هذا المجلس الذي ضم العراق ومصر والأردن واليمن الشمالي (قبل توحيد شطري اليمن) أن في مقدوره جر مصر لمغامرته الإقليمية باحتلال الكويت في أغسطس عام 1990.
مرة أخرى، أدركت القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والقوى الإقليمية وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، حاجتها إلى الدعم المصري في مواجهة عدوان صدام حسين، وأن من المتعذر تشكيل تحالف عربي ودولي في مواجهته بدون مصر، ولم يُترك لمصر خيار آخر سوى المشاركة ولم تملك القيادة المصرية، في ذلك الوقت، ترف الوقوف على الحياد. المسألة بالنسبة لمصر، التي تصدت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر لتهديدات مماثلة للكويت من قبل نظام الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، في عام 1961، مسألة مبدأ. فمصر التي لعبت دوراً رئيسياً في إنشاء جامعة الدول العربية في عام 1945، كانت تدرك أهمية الحفاظ على حدود دول المنطقة التي رسمت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لأن السماح بتهديد سيادة أي دولة عربية سيفتح الباب لحروب لا تنتهي وسيكون سبباً لتدخلات دولية وسيمنح القوى الإقليمية الطامحة لإعادة تشكيل خريطة المنطقة وفق مصالحها الخاصة.
النتيجة التي ترتبت على المناورات العربية للالتفاف على مصر ومحاصرتها، كي لا تستعيد مكانتها الإقليمية الواجبة، هي ما آلت إليه الأوضاع في المنطقة وما وصل إليه العالم العربي الآن، وهو الوضع الذي لخصه باقتدار الصديق العزيز الدكتور سليم العبدلي في مقاله المنشور أمس الأحد على موقع صحيفة المشهد، إذ يقول "يتضح جلياً من كل ما ورد، أن كل اللاعبين الذين ينتمون لمنطقة الشرق الأوسط لهم خططهم المستقبلية للمكانة ومصالح حكومتها وشعبها، إلا الدول العربية!" "فليس هناك، على الأقل في المعلن، أية خطة لأية دولة عربية عن موقعها الجيوسياسي في المنطقة، وإن كانت ستدوم كما هي عليه الآن؟"
لقد أصبحت الدول العربية مقسمة بين ثلاثة مشاريع إمبراطورية تتصارع من أجل السيطرة على المنطقة ومقدراتها، ويمثل الوضع الراهن في سوريا هذا الصراع في أوضح صوره، إذ تتصارع هذه المشروعات الثلاثة لتوسيع نفوذها على حساب الشعب السوري، وبمساعدة من يحكمون سوريا، سواء كان النظام الفاشي السابق في عهد أل الأسد، أو مع المعارضة التي سمح بانتصارها في سوريا بعد إفشال الانتفاضة الشعبية المدنية السورية بالزج بالمعارضة الإسلامية المسلحة في المشهد السوري وتمويلها وتسليحها خليجياً وتركياً، ويتحمل نظام بشار الأسد المسؤولية الأكبر لذلك التحول السريع لانتفاضة الشعب السوري إلى حرب أهلية تُخاض بالوكالة لصالح قوى إقليمية ودولية، ونجح النظام ونجحت تلك القوى في إفشال إمكانية التحول الديمقراطي في سوريا، مثلما أفشلت القوى ذاتها طموحات شعوب أخرى في المنطقة في بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تفتح الباب لمسار مختلف في التطور والنمو.
كيف يتعامل العرب مع المشاريع الإمبراطورية؟
لا خلاف في التوجه العام لمقال الدكتور سليم العبدلي، وتلح عليّ التساؤلات ذاتها التي اختتم بها مقاله، أين هي الدول العربية من كل ما حدث خلال الأربعة عشر شهراً من العدوان الإسرائيلي على غزة وعلى لبنان والتهديد المتكرر بتوسيع الحرب؟ وأين هي الآن مما يجري في منطقتها وتدمير القوة العسكرية السورية؟ وهل لها أي دور فيما يحدث؟
لكنني اختلف معه في أمرين: الأول الانتظار إلى أن يميط اللثام عما سيجري في المستقبل القريب، إذا أننا لا نملك ترف الانتظار. والثاني، الاستسلام لفكرة أن ما يجري في المنطقة تم الترتيب له من قبل المصالح الغربية الاستعمارية التي أرادت أن تظل شعوب المنطقة تعاني من الصراعات، لدعم المشروع الصهيوني الطامح لإقامة "إسرائيل الكبرى" والهيمنة الاقتصادية على منطقة الشرق الأوسط، وللأسف أن لبعض الأطراف العربية دوراً رئيسياً في مساعدة هذا المشروع الصهيوني، رداً على المشروع الإيراني أو المشروع التركي. لقد كانت أمام مصر والدول العربية فرص هائلة لتغيير هذا الوضع بإدخال شعوبها في المعادلة بدلاً من تهمشها، لكنها كانت مصرة وبعناد على إضاعة هذه الفرص. الحقيقة التي يجب تأكيدها هنا أن تهميش البلدان العربية في معادلات القوة في الإقليم بدأ من الداخل بإصرار الحكومات على تهميش الشعوب وهدر إمكانياتها وقدراتها لا لشيء سوى الاستئثار بالسلطة وبالموارد.
لا يمكن للدول العربية أن تتعامل مع هذه المشروعات الإمبراطورية باتباعها الأسلوب القائم على انعدام الثقة في الشعوب، وشن حروب داخلية عليها، وفقدان الثقة المتبادل بين قادتها ونخبها الحاكمة، ومساومة مصر أكبر الدول العربية سكانا ومن حيث القدرات العسكرية وإمكانات التنمية الهائلة، من أجل مشاركة نخبتها الحاكمة في تقاسم الأرباح على حساب الشعب من خلال مشروعات اقتصادية لا تتفق مع الأولويات إعادة بناء القدرة المصرية علمياً وثقافياً وفكرياً، وإصرارها على توسيع منطق الكفيل في التعامل مع القدرات البشرية المصرية بتخصصاتها ومجالاتها المختلفة إلى داخل مصر.
إننا في حاجة إلى إعادة نظر شاملة في كل أوضاعنا الداخلية والإقليمية والدولية والتفكير في مشروع جديد للنهضة في البلدان العربية وفي مصر، يبدأ بإعادة الاعتبار للشعوب والانطلاق من أولوياتها المتمثلة في النهوض العلمي والتعليمي والثقافي والفكري والنهوض بالأوضاع الصحية، وأن تُوجه القدرات المالية والثروات لتحقيق هذه الغايات على المستوى الداخلي والإقليمي. إن التركيز على مهام بناء الأمم والدول قد يكون خطوة أولى على طريق إنهاء الانقسامات وبناء الثقة فيما بين القادة العرب من جهة، وبينهم وبين الشعوب التي يحكمونها، من جهة أخرى، لمواجهة المخاطر المشتركة التي تمثلها المشروعات الإمبراطورية الثلاثة.
------------------------------
بقلم: أشرف راضي